العمورى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


يهتم بالثفافة والادب وعلم المصريات
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمود عطى
Admin
محمود عطى


المساهمات : 85
تاريخ التسجيل : 23/03/2012

عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة Empty
مُساهمةموضوع: عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة   عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة Icon_minitime1الثلاثاء مايو 22, 2012 4:08 pm

رانسيس جيوز (1)
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور
نقلا عن اركمانى


إن دراسة لعادات الدفن النوبية والسودانية خلال مجمل التواتر الثقافي هى مسألة بالضرورة معقدة ومهمة غير مكتملة، وذلك بفعل أن علم آثار تلك المنطقة قد ركز بصورة رئيسة على التنقيب في المدافن. الأكثر أهمية، أن المدافن تؤلف وحدات منغلقة تحوي، في معظم الحالات، معطيات غنية ومتماسكة مميزة لعصرها، والتى استخدمت بفعل ذلك محددات كرونولوجية وثقافية. ساعد تحليل المجاميع والمنشئات الجنائزية الى حد بعيد في التعرف على الثقافات النوبية، وفي تثبيت كرونولوجيتها، وفي تحديد علاقاتها بالمناطق الأخرى وبالثقافات السابقة/ اللاحقة، وفي نهاية المطاف في فهم بنياتها الاجتماعية. الأسباب التى قدمت عادة لتبرير النشاط المكثف للتنقيب في المدافن هو توفر موضوعات مكتملة بداخلها. لكن، للأسباب المذكورة في الأسطر السابقة، فإن وجهة النظر هذه تحتاج الى إعادة نظر : محتويات المدافن تمكننا من انشاء اطار كرونولوجي، وثقافي، واجتماعي، واقتصادي لكل بحث لاحق.

إن المقابر وقد استخدمت بداية وقبل كل شئ محددات كرونولوجية واجتماعية- ثقافية، قد تم دراستها كوحدات في ذاتها. إن ذات طبيعة فرع معرفتنا قد تكون مسئولة عن ذلك. كيف يمكن لبقايا مادية محضة أن تكشف عن المعتقدات والأفكار المحتواة فيها؟ على كلٍ، يمثل الموت لأية مجموعة اجتماعية حدث جلل مصحوب بعدد لا نهائي من المعاني الضمنية. فكما سجلته المدنية المصرية القديمة وأكدت عليه " فإن رد الفعل تجاه الموت ليس أمراً عشوائياً لكنه ذو معنى وتعبيرHutington and Metcalf,1979:1. لكن، علماء الآثار، في أبحاثهم، لا بدَّ لهم من استيعاب الواقع الصعب. منذ الأزمان القديمة، طال الكثير من أعمال النهب والتخريب للمواقع، إما بفعل إنساني أو طبيعي، معظم الجبانات مما أدى إلى زوال العديد من المعطيات. فكما ذكر محقاً آدمز1977:156"... إن الكشف عن مدفن في حالته الأصلية يمثل رسالة مقروءة لعالم الآثار". مع ذلك فإن مدفن في حالته الأصلية قد يكون فاقداً لكل أثر لمحتوياته العضوية.

ما قبل التاريخ
تم الكشف عن أقدم المدافن في وادي النيل الأعلى في النوبة السفلى، في جبل صحابة Wendorf,1968bوالجزيرة دبروسا، بالقرب من وادي حلفا، وتوشكا Wendorf,1968a:869-875ونسبت لثقافة قادان (حوالي 13000 - 8000 قبل الميلاد)، والتي تمثل نهاية العصر الباليوليتي في تلك المنطقة.

يذكر الأدب المتخصص جبانة جبل صحابة عادة لأسباب لا صلة لها بالطقوس الجنائزية. بالطبع، القطاع الأكبر من أهل الجبانة - رجال ونساء وأطفال - يظهرون مؤشرات دالة على حالة موت بفعل عمل عنف، ولوحظ أن مركب الأسلحة الحجرية التى قتلتهم وجد في داخل أجسادهم في بعض الحالات. مع ذلك، وفرت هذه الجبانة معلومة قيمة عن عادات الدفن. إنها المثال الهام الأول في المنطقة لسكان يمنحون اهتماماً بموتاهم و، من ثم، يمكن عدهم السباقون في تثبيت تلك التقاليد التى ستظهر لاحقاً في النوبة؛ المقابر في منطقة تبدو مخصصة للدفن فقط؛ يقبع العديد من المقبورين في حفر بيضاوية صغيرة محمية بصفائح رقيقة من الحجر الرملي؛ وضع الجثمان واتجاهه هو نفسه بالنسبة لكل الهياكل التى ترقد في وضع مقرفص على الجانب الأيسر، الرأس باتجاه الشرق وتتجه إلى الجنوب، الأيدي عادة أمام الوجه؛ في حالات، يضم القبر الواحد مدفنين إلى أربعة(شكل 1). على كلٍ، لم يتم الكشف عن محتويات قبر مع أن العديد من المدافن سالمة في وضعها الأصلي. في توشكا والجزيرة دبروسا، اتخذت الهياكل الوضع نفسه رغم أن اتجاهها لم يخضع لضوابط ثابتة. في توشكا لوحظت جمجمة بقرة برية (Bos primigenius) موضوعة من فوق العديد من المقابر، وذلك في الغالب لتعليم موقع المقبرة.

http://www.arkamani.org/photos/neolithic/burial-customs-1.jpg

شكل 1: جبانة قادان في جبل صحابة. صورة الركن الجنوبي الشرقي (نقلاً عن وندورف)

يبدو ان تلك البدايات المدهشة للتقاليد الجنائزية في النوبة لم تستمر. فبرغم عمليات الاستكشاف الشامل، لم يتم الكشف عن مقبرة نيوليتية في النوبة السفلى. غير واضح عما إذا كان ذلك يعزى للبحث الميداني غير المتقن أو تعرية الموقع أو غياب نشاطات الدفن. على أية حال، فإن الاكتشافات الأخيرة في السودان الأوسط قد عدلت لحسن الحظ الوضع ووفرت بينة دالة على تطور عادات الدفن خلال هذا العصر.

ترجع أقدم المدافن في هذه المنطقة إلى ما يعرف بـ الخرطوم الميزوليتية (حوالي 8000 -5000 ق.م.) وتختلف اختلافاً كبيراً عن القادانية في النوبة السفلى. كانت وسط مواقع الإقامة ولم تحتل مناطق مخصصة. لم تكن على هناك ضوابط محددة تحكم اتجاه الجثمان أو وضعه. مع أن الهياكل مقرفصة في

حالات، فإنها في الغالب ترقد الظهر مع الأرجل في حالة انحناء إلى الأمام والأيدي بعيدة عن الوجه (شكل 2). في شابونا، بالنيل الأبيض، تم الكشف عن هيكلين فقط في حالة حفظ جيدة وكانا كلاهما يرقدان في وضع ممدد على ظهريهما Clark,1989. لا تظهر المقابر ولا الهياكل أي غطاء خارجي أو حماية ولا وجود لمحتويات قبر، باستثناء حالات قليلة: في السقاي Caneva,1983:21-24 والخرطوم Arkell,1949:31-35، صدف محار قد يكون مرتبطاً ببعض المدافن؛ في الخرطوم، صاحبت شقفة فخار كبيرة أحد الهياكل ووضعت كمسندة للرأس في حين أن هيكل

http://www.arkamani.org/photos/neolithic/burial-customs-3.jpg
شكل 2: مدفن ميزوليتي في السقاي (نقلاً عن كانيفا)


آخر تزين بعقد من خرز من بيض نعام. عادات دفن أكثر تعقيداً تظهر فقط في وقت لاحق، في مواقع الخرطوم النيوليتية (الألفية الخامسة قبل الميلاد)، كما دللت على ذلك أعمال التنقيب في الكدرو Krzyzaniak,1984 والغابة Geus,1984; Lecointe,1987، حيث تم التنقيب مؤخراً في جبانات كبيرة. جدير بالملاحظة ان المقابر هناك، كما في النوبة قبل عدة الآلاف من السنين، تقع خارج مواقع الإقامة في مناطق مخصصة لذلك.

تعرف المنقبون في الغابة، بقدر ما سمحت الترسبات، على حفر دائرية أو شبه دائرية تتفاوت أقطارها من 120 سم إلى 160 سم. احتوت تلك الحفر على هيكل واحد في كل منها يرقد في وضع مقرفص بدون اتجاه محدد. الهيكل عادة يتزين بحلي - أسورة، عقود، وحلق شفاه - ويرقد في منتصف الحفرة، التى احتوت كذلك على أواني فخارية، وبصورة استثنائية، أدوات من الحجر والعظم، وصدف محار وشظايا ملكيت. أثار خضراء اللون وجدت في حالات على الأسنان والجماجم؛ آثار حمراء اللون تظهر على العظام والترسب المحيط بها؛ وجدت مناطق بلون أبيض سميك تحت الجماجم والقدمين. بالإضافة، في المدافن الأكثر حداثة، وضعت في بعض الحالات جمجمة أو اثنتين بالقرب من جمجمة المتوفى.

تمثل مدافن الخرطوم النيوليتية تطوراً ملحوظاً مقارنة بمدافن الخرطوم الميزوليتية، والتي يمكن الكشف احتمالاً عن جذورها في المدافن القادانية الأقدم. يمكن ملاحظة ذلك بصورة أكثر وضوحاً في السلوك تجاه الموت، والذي ينظر إليه تعبيراً عن شكل آخر من الوجود وهو ما قد تشير إليه حقيقة وضع المتوفى الذى يذكرنا بالمرحلة الجنينية في الرحم ومن ثم حدث الميلاد. مع جهلنا بما يشمله هذا العبور فإننا قد نميل إلى احتمال النظر إليه بوصفه طقس استهلال ختامي يعبر من خلاله السكان عن رغبتهم في مساعدة المتوفى بتقديم عناصر من حياته السابقة، بالتالي التفسير المحتمل لوجود الزينة الشخصية والممتلكات، وأيضاً ضرورة حماية الحفر. يكتشف عالم الآثار للأسف البقايا المادية لهذا السلوك فقط، متجاوزاً مغزاه العميق، والمعتقدات الكامنة والطقوس الدينية والسحرية المرتبطة به. بالتالي فإن التقارير المنشورة عن مواقع الدفن عادة ما تحتوي بالضرورة على كشف المحتويات الممل، لكنه المفيد، الذى يناقش بتفصيل البقايا المادية، لكنه نادراً ما يتناول المفاهيم الجنائزية والمعتقدات نفسها.

لنعود إلى موضوعنا، دفن المتوفى في الغابة بمفرده في حفرة تشغل وضعاً قبولادياً. ليس هناك اتجاه ثابت محدد. يلبس المتوفى الحلي التى تزينه خلال حياته والتي تنسب احتمالاً إلى قوى وقائية. الألوان التى وجدت داخل الحفر تظهر أن اهتماماً كبيراً كرس للجثمان. هناك بالطبع بقايا غطاءات وكساءات مغرة (حمراء)، أو مساند رأس ومساند رجلين (بيضاء) وطلاءات وجه غالباً ذات أهمية سحرية (خضراء). موضوعات مختلفة تحيط بالجثمان، تشير إلى حياته أو وضعه الاجتماعي السابق. لم تكن الجرار الفخارية هناك بغرض احتواء الطعام، كما قد يعتقد، طالما أنها وضعت دائماً مقلوبة وفي حالات فوق بعضها الآخر. يحتمل أن تكون قد استخدمت أثناء احتفال طقوسي قبل إغلاق المدفن. أخيراً فإن جماجم الثيران، التى تظل وظيفتها غير معروفة، تشير إلى أهمية الماشية للمجتمع وللطقوس الجنائزية.

في الوقت الذى تبدو فيه القبة تدليلاً جيداً لأنماط الدفن التى ظلت سائدة في المكان حتى إدخال المسيحية، فإنها أقل توضيحاً للتقاليد الجنائزية الأخرى. لا يمكن الكشف عن مظهر خارجي للقبور وتبدو الجبانة في مجملها قد تطورت وفق خطوط كرونوطبوغرافية صارمة، وهو ما قد يشير إلى بنية اجتماعية مساواتية. الانحراف الوحيد في الترتيب الأفقي للمقابر وجود مساحة شاغرة احتمالاً شغلت ببناء مادي لم يعد من أثر له للأسف. رغم أن الكدرو معاصرة للغابة فإنها تظهر تطوراً أشد تعقيداً حيث رتبت مدافنها في طبقات يفترض أن تمثل وحدات عائلية أو اجتماعية.

http://www.arkamani.org/photos/neolithic/burial-customs-2.jpg
شكل 3: إعادة تركيب تخطيطية لمقبرة في الكدادة (نقلاً عن رينولد)

مع ذلك، فإن ازدهار العادات النيوليتية تتجسد في الكدادة (الألفية الرابعة ق.م.) المجاورة للغابة واللاحقة لها Geus 1984 ; ReinoldM1987:21-41. تم تنقيب منطقتين رئيستين هناك، بما في ذلك واحدة تحتوى على العديد من طبقات المقابر مثل الكدرو(شكل 3). ظلت المدافن تشغل حفر دائرية وشبه دائرية؛ وترقد الهياكل في وضع مقرفص على جانبها بدون اتجاه محدد (شكل 4). كما في مدافن الغابة، كانت هناك بقع ملونة تشير إلى ملابس، وأغطية، ووسادات، ومراتب؛ لكن لم يوجد طلاء وجه، مع أن شظايا ملكيت وجدت وسط القرابين. وفي حين تنوعت المجاميع الجنائزية وتعددت، فإنها كانت ذات الطبيعة نفسها، لكن الجرار كانت في وضع عمودي. تماثيل أنثوية من الفخار كانت احتمالاً

أكثر الإبداعات أهمية. ورغم أن وظيفتها المحددة لازالت عرضة للنقاش، فإنها تشير إلى تطور ملموس بلا شك في المفاهيم الجنائزية والتي أكدت عليها إبداعات أخرى: احتوت العديد من الحفر على مدافن من فوقها؛ هياكل كلاب و، بدرجة أقل، هياكل أغنام وجدت في المقابر، إلى جانب جماجم الثيران؛ وأخيراً، وجدت عادة دفن الأطفال داخل جرار كبيرة في موقع الإقامة (شكل 5). أحد أهم الملاحظات الجديرة بالذكر تتعلق بالمدافن الفوقية والتي تحتوي على فردين أو ثلاثة. يبدو أن التحليل المقارن يشير إلى وجود القرابين البشرية في تلك المدافن التى تحتوى على ثلاثة أجساد. إذا تأكد ذلك، فإن تلك تكون بمثابة الحالة الأولى لنشؤ عادة قدر لها الانتشار في الأزمان اللاحقة، بخاصة في كرمة. هذا الوجود للقرابين البشرية، والتعقيد المتزايد للمقابر وترتيبها في طبقات كلها عناصر تشير إلى مجتمع غير مساواتي أخذت فيه عناصر التراتب الاجتماعي في البروز.


http://www.arkamani.org/photos/neolithic/burial-customs-5.jpg
شكل 5: دفن داخل جرة في الكدادة (a) جرة مزخرفة تحتوي على الجثمان؛ (b) محار نيلي؛ (c) جمجمة؛ (d-e) جرار فخارية؛ (f-g) بيض نعام



http://www.arkamani.org/photos/neolithic/burial-customs-4.jpg

شكل 4: مدفن نيوليتي في الكدادة (a) جمجمة ثور؛ (b) هيكل لكلب محطم جزئياً؛ (c) جرار فخارية؛ (d) شظايا مالاخيت؛ (e) خنجر؛ (f) فأس؛ (g) ألواح ظران مكسرة


تم إثراء معلوماتنا عن تلك العادات الجنائزية من خلال التنقيب في مدافن السودان الأوسط. الأعمال الميدانية في الماضي القريب والتي أجريت في حوض كرمة شكلت امتداداً جغرافياً إلى الشمال بالنسبة لتلك التنقيبات. جبانات هامة يرجع تاريخها إلى فترة الكدادة نفسها تم التنقيب فيها حول كدروكة Reinold,1987:44-54[للمزيد عن موقع كدروكة أنظر في هذا العدد الرابع] حيث أنه، بفضل ظروف الحفظ الملائمة، تمكن المنقبون من ملاحظة عناصر جديدة تتعلق، بصفة خاصة، بتوزيع المدفن واتجاه الجثمان.

التاريخ المبكر
المؤسف أن تلك الاكتشافات نالت فقط نشراً محدوداً لكونها تتعلق بالنوبة حيث عُلمت نهاية العصر النيوليتى بظهور ممارسات الدفن الهامة الخاصة بمواقع المجموعة الأولى Nordsröm,1972، والمجموعة الثالثة Bietak,1968، وكرمة Bonnet et al.,1990 والتي خلفت لنا العديد من البقايا المدهشة. المجاميع الجنائزية يمكن مقارنتها بتلك التى سبق وصفها بالنسبة للسودان الأوسط وتحتوي على زينة شخصية، وملابس، وأغطية، وأدوات زينة، وأدوات وجرار فخارية.

على كل، فانه ولغياب مقابر محلية سابقة لها مباشرة، فإن مدافن المجموعة الأولى (حوالي 3500-3000 ق.م.) تمت مقاربتها عادة بمدافن مصر العليا، التى عُدت سلفاً لها. في الواقع، فإن الجبانة الأقدم المنسوبة للمجموعة الأولى، الواقعة في خور بهن في شمال النوبة السفلى، يصعب تمييزها عن نظيرتها المصرية الامراتية. في معظم الحالات، يقبر الميت في حفرة شبه مستطيلة أو بيضاوية، ويرقد في وضع مقرفص على جانبه الأيسر، والرأس في الجنوب متجهة إلى الغرب.

رغم أن التأثير المصري في أشكال الحفر وضوابط الاتجاه الصارم جلية ولا يمكن استبعادها، فإن ذلك التأثير أقل وضوحاً فيما يتعلق بوضع القرابين بالقرب من الميت. أثبتت أعمال التنقيب في الغابة، والكدادة، والكدرو، أنه في الجنوب، النائي عن التأثيرات المصرية، فإن تأثيث المقابر كان ممارسة منتشرة. بالإضافة، تظهر مدافن المجموعة الأولى صلات بمدافن المنطقة الأبعد جنوباً، التى من بين أهمها وجود التماثيل الأنثوية المصنوعة من الفخار في داخلها. يكون مغرياً القول بأن وجود المدافن الفوقية، والتي لا ترتبط بقرابين بشرية، هي صلة أخرى. لكن العادتان تم توثيقهما بالمثل في مصر ما قبل الأسرية. أخيراً فان كل من المجاميع الجنائزية والمصنوعات الفخارية تتقاسم العديد من السمات المشتركة.

اختيار اتجاه محدد صارم، رغم أنه مأخوذ عن مصر، استجاب لضرورات دينية واضحة فرضتها احتمالاً ظاهرة شروق الشمس ومغيبها. أيضاً فإن اختيار اتجاه صارم والعادة المدهشة لاستخدام جريان مياه النيل للدلالة على اتجاه الشمال، واللتين أصبحتا عادتين راسختين في النوبة، ترجعان إلى التأثير المصري.

إن جبانات المجموعة الأولى بتركيبها كوحدات متجانسة نسبياً تمثل بالتأكيد مجتمعاً مساواتياً، غض النظر عن أنها تضم القليل من المقابر الفقيرة نسبياً. هذه الأخيرة تم تفسيرها بداية بصورة خاطئة بحسبانها نتاج تطوري ونسبت إلى خلف للمجموعة الأولى الأكثر فقراً، المجموعة الثانية، والتي أثبت لاحقاً أن وجودها غير فعلي وغير صحيح. الأمر بعكس ذلك، فإن جبانتين في سيالا وقسطل، ضمتا مقابر ذات ثراء لافت للانتباه، مما أثار إشكالية التفسير من وجهة نظر اجتماعية تاريخية. بالإضافة، قدمت الجبانة 268 في تنكالا العديد من السمات الجديدة: بنى فوقية - تشبه في شكلها تلك الخاصة بالمقابر المتأخرة للمجموعة الثالثة - أماكن للقرابين وفخار قرابيني يغطي المدافن الحفر، مشيراً إلى موضعها. على كلٍ، طالما أنها كانت الوحيدة فقط الموثقة، فإن تلك البني الفوقية لا يمكن عدها مؤشرات ثقافية كما هو الحال بالنسبة لتلك الخاصة بالمجموعة الثالثة.

من حيث البنية، فإن مقابر المجموعة الثالثة (حوالي 2200- 1500 ق.م.) مشابهة لمقابر المجموعة الأولى رغم تجلي بعض الاختلافات الدالة على تطور في المفاهيم الجنائزية التى يمكن تفسيرها كنتيجة إما لمؤثرات مصرية أو مؤثرات جنوبية. يتجلى هذا التطور بصورة أساسية في الاتجاه المختلف للجثمان، وفي غياب مدافن مضافة فوقية، وفي بناء غرف دفن بالطوب غير المحروق، وتعميم البني الفوقية المرتبطة بالقرابين و، في فترات لاحقة، وجود قرابين حيوانية. سمة مدهشة تمثلت في الوجود المتكرر لتماثيل من الطين تصور نساء وأبقار.

مع ذلك، فإن هذه الثقافة المتجذرة في النوبة السفلى لأكثر من ألف عام، من نهاية المملكة القديمة (3) حتى وسط الأسرة الثامنة عشرة، قدر لها أن تتطور وبالتالي أن تحسن أنماطها. تلك التغيرات تتبدى بوضوح في المجاميع الجنائزية المعتمدة بشدة على العلاقات بمصر، التى كانت بدورها تشهد تغيرات على مدى الأزمان. وتتبدى أيضاً في المباني الجنائزية وطرق الدفن.

الحفر التى بدأت دائرية إلى حد ما أو ذات أشكال مستطيلة، أصبحت مستطيلة مع ألواح حجرية مصطفة تغطيها في بعض الحالات. خلال المرحلة الانتقالية الثانية، تم توسيع الحفرة في المقابر لتتحول إلى غرفة من الطوب غير المحروق، مغطاة في حالات بقنطرة، تشيد عادة فوق مستوى الأرض(شكل 6).
غطت مبان حجرية، مكونة من حجارة جافة دائرية مغطاة بالحصى والرمل، الحفرة. مع زيادة في الحجم، من 2 - 3 متر في القطر الى 16 خلال المرحلة الانتقالية الثانية، تدنت نوعية البناء. منذ البدايات الأولى وضعت جرار و، في حالات أكثر، مسلات مستطيلة وجماجم ثيران على حوافها الخارجية. في أوقات متأخرة من المرحلة الانتقالية الثانية، شيد مصلى من الطوب غير المحروق أو مكان للقرابين في حالات في الجزء الشمالي للمبنى.

http://www.arkamani.org/photos/c_group/burial-customs-6.jpg
شكل 6: مبان فوقية لمدافن المجموعة الثالثة (نقلاً عن يونكر)


وضع المتوفى في وضعية مقرفصة في الحفرة وفق اتجاه تغير خلال المملكة الوسطى : شرق- غرب، الرأس في الشرق متجهة شمالاً أصبح شمال - جنوب، الرأس متجهة غرباً. زين المتوفى بحلي مختلفة، في الأساس عقود وأسورة. تدل العديد من المكتشفات على وجود ملابس- سواتر العورة، والصنادل، والقبعات، والمخدات. إبداع هام في المرحلة الانتقالية الثانية تمثل في إدخال الدفن في عنقريب.

يظهر هذا الوصف أن إسهام المجموعة الثالثة كان جلياً بالنسبة لتطور المباني الجنائزية أكثر منه بالنسبة لتغيرات المجاميع الجنائزية. بنهاية المرحلة، مجاراة للنموذج الذى يظهر في المجموعة الأولى واحتمالاً تحت التأثير المصري، أصبحت المقبرة تحتوى على غرفة دفن، وبنية فوقية ومصلى، وهو تقليد تم الاحتفاظ به في الفترات اللاحقة. التغيرات في اتجاه الجثمان التى حدثت خلال المملكة الوسطى كانت ذات أهمية دينية محددة لكنها غامضة لازالت.

حدثت تغيرات أخرى هامة. فرغم أن معظم الجبانات تتألف من مقابر متشابهة نسبياً تشير، بالنسبة للمجموعة الأولى، إلى مجتمع مساواتي، فإن مقابر أكبر وأكثر ثراءً، تظهر خلال المرحلة الانتقالية الثانية على أطراف الجبانات، كاشفة عن بداية عملية التراتب الاجتماعي. يشير ذلك إلى التأثير من ثقافة كرمة الجنوبية، والذي ينعكس أيضاً في إبداعات جنائزية مثل جماجم الثيران والدفن على عنقريب (4).

بالطبع، فإنه فقط إلى الجنوب من بطن الحجر سجل المنقبون التطور الأكثر إثارة للتقاليد الجنائزية الخاصة بتلك المرحلة وبخاصة في كرمة، حيث توجد جبانة تتألف من حوالي 30.000 مقبرة إلى الشرق من المدينة القديمة. قادت أعمال جامعة هارفارد ومؤخراً بعثة جامعة جنيفا إلى الكشف عن معلومات تتعلق بتطور التقاليد الجنائزية من أصول تلك الثقافة حتى اختفائها في بدايات المملكة الحديثة عبر ثلاث مراحل متتالية وسمت بكرمة القديمة والوسطى والكلاسيكية (حوالي 2500- 1500 ق.م.).

الأساس، وهو عادة حفرة منفردة، تحول بطريقتين : أولاً، القسم الأفقي، دائري أو بيضاوي خلال فترة كرمة القديمة، أصبحت أكثر استدارة في فترة كرمة الوسطى وأخيراً مستطيلة في فترة كرمة الكلاسيكية؛ ثانياً، الحفرة، أصلاً صغيرة، زاد حجمها إلى درجة معتبرة في خلال فترة كرمة القديمة لتعود إلى حجمها الطبيعي في فترة كرمة الكلاسيكية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://amor.forumarabia.com
 
عادات الدفن في وادي النيل الأعلى: لمحة عامة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» نبذة مختصرة عن ابيار الدفن
» مراجعة عامة في علم الاجتماع

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
العمورى :: مؤلفات محمود عطى :: علم المصريات-
انتقل الى: